حدّثني ذلك الصديق عن الاشتباك الذي وقع في المسجد المجاور لبيته بعد صلاة الجمعة، بسبب توجس المصلين من دعاء الإمام على «الظالمين»: «تقصد مين يا شيخ؟ الجيش ولا الإخوان؟».
وعلى أثر الندوة التي انعقدت سريعًا لبحث الأمر، جرى تشابك بالأيدي والأقدام والأحذية والشباشب. تمامًا كما حدث في عشرات الوقائع التي سمعتها عن مساجد في القاهرة والمحافظات، جرى فيها جذب الإمام من جلبابه من فوق المنبر أو «القفش في زمارة رقبته» من الخلف فور انتهاء الصلاة، بسبب شكوك مماثلة.
صديق آخر قال لي إنه ترك البيت، لأن والده إخواني يصفه طوال اليوم بالانقلابي ويحمّله مسؤولية قتل الإخوان ويصرخ فيه طوال اليوم: «هو دا التفويض يا حمادة؟»فيصرخ حمادة: «تفويض إيه! ما أنا كنت يومها متلقّح جنبك يا عم الحاج!».
ثم إنه في ظل ذلك كله سمعت شخصًا يُسمى مصطفى حجازي، يرجح أنه مصري الجنسية، لأنه يشغل فيما يبدو منصب المستشار السياسي للرئيس المؤقت عدلي منصور، ولكنه لا يبدو أنه يعيش فعلًا في مصر، لأني سمعته يقولعلى شاشة التليفزيون: «المصريون لم يكونوا موحدين بقدر ما هم الآن».
رد فعلي اللحظي كان من البذاءة بحيث لا يمكنني أن أكتبه هنا، ولكني عزيت نفسي بأنه من الأكيد أن السيد الرئيس عدلي منصور لا يمارس السياسة، ولذلك فهو ليس بحاجة إلى مستشار سياسي ولله الحمد.
ولكن المشكلة الأعقد من رؤية مستشار السيد عدلي أن هناك عددًا كبيرًا من المغفلين المصريين أصابتهم عدوى العمى – أو الرغبة في التعامي- الذي أصاب المستشار المشار إليه، مما جعلهم يغفلون عن رؤية تلك التفاصيل التي تدور في شوارعهم، ويصيبهم ما يشبه الهياج الجنسي عند رؤية شعار «مصر تحارب الإرهاب» الذي عمّمته الشؤون المعنوية للقوات المسلحة والأجهزة الأمنية ليكون شعارًا ثابتًا أعلى يسار شاشات إعلام الدولة، واعتنقته بعض شاشات الإعلام الخاص الذي ارتدى مؤخرًا وبوضوح البدلة«الكاكي» ولا نعلم متى سيعود لارتداء «الملكي» مرة أخرى.
ومن مهازل الصدف، أنه هو نفسه العمى ونفس الهياج الذي يتلبسه مغفلون متعاطفون مع الإخوان وتيارات السلطوية الإسلامية الذين لا يرون أحدًا غيرهم في الشوارع ولا في وسائل المواصلات ويعتقدون أن كل ما حدث في مصر هو أن الجنرال السيسي استيقظ في الصباح واعترته رعشة ناصرية ممتزجة بكراهية مفاجئة للإسلام وقرر أن يرتب «انقلابًا» ليغتصب السلطة من الإخوان.
عنوان حركتك أو شعارها الأساسي ليس مجرد إدراك وتحليل للمشهد ولكنه اختيار لطريق. الحشد والاعتصام في الشوارع ضد «الانقلاب» هو تجاهل للمشهد الأساسي وهو «الانقسام»، والحملة ضد «الإرهاب» هو خوض معركة مع بعض جوانب المشهد وتجاهل نصيب طرف الإسلاميين من حشود «الانقسام».
العمى عن هذا «الانقسام» وعن شرط اللحظة الثورية التي تجعل من الانقسام حيًّا ونشطًا في حركة كل فرد ومجموعة وليس بالضرورة تبعًا للقيادات وللتنظيمات، هو عمى عن جذر الصراع وصورته الساطعة، هو خيابة وخيانة، وهو ما يمكن أن يتحوّل تدريجيًا إلى تنويعات مستمرة وعميقة من«حرب أهلية» أو انقسام شعبي بائس مكتوم لا يمكن أن يسمح بحياة اجتماعية ممكنة بين المصريين، فضلًا عن حياة سياسية.
كلا العنوانين «الانقلاب» و«الإرهاب» اختيار واعٍ من جانب رؤوس الفريقين الكبيرين لطريق الصراع الوجودي، وهي معركة ممكنة بين الرؤوس والقيادات، ولكنها ليست ممكنة بين الناس على الجانبين. ومن يصدقون هذه الشعارات على الطرفين هم من يتم استثمار حركتهم وتأييدهم في معركة على طريق مخادع لا يتعامل مع جذر المشهد وأصله، وكأن هؤلاء الملايين من الطرفين هم مجرد إكسسوارات للإرهاب أو للانقلاب.
على العكس من ذلك، خوض معركة الاستقطاب بين طرفي الانقسام دون أوهام الضربات القاضية أو إجلاء الآخرين إلى منافٍ ومعسكرات عزل، هو الطريق الصعب والطويل الذي يمكن أن ينتهي إلى ديمقراطية تحترم «الناس» على طرفي الاستقطاب. تحترم حرياتهم وحقوقهم وتضعها فوق«الصندوق» وتجعله خادمًا لها لا العكس، ولكنها تهزم وتستبعد وتقصي «رغبات التسلط» عند كل طرف ومحاولاته فرض نموذج للحياة على الآخر أو استخدام السلطة على طريق ينتهي بذلك.
الاعتراف بالانقسام ليس معناه الإقرار بأن الطرفين على سواء في التقييم الأخلاقي لاتجاه حركتهم أو مطالبهم أو محاولة التوسط والبحث عن «ميدان ثالث». فمع كامل الاحتقار للرغبات السلطوية للتيارات الإسلامية واتجاه حركتها إلا أنه لا يمكن تجاهل واحتقار وجود جماهيرهم ومؤيديهم – لا أصدق أني مضطر لكتابة جملة كهذه أصلًا-ولا يمكن لانحطاط التيارات الإسلامية الذي يعمى عن خصومه أن يبرر ذلك، وإلا سقط خصومهم في نفس الانحطاط الأخلاقي، وهم يسقطون حاليًا وبكثافة.
من يحتقرون الناس لا يمكن أن ينجحوا في بناء ديمقراطية ولو كسبوا الانتخابات أو حازوا على تفويض شعبي، ومن يفكر في مصالحه في إطار صيغة للتفاهم ورعاية مصالح«الكل» هو من يقترح طريقًا ديمقراطيًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق